وجوه الحكمة في تعدد القراءات :
اقتضت حكمة العلي الاعلى أن ينزل القرآن بلسان عربي مبين بلسان قوم الرسول النبي العربي المبين r كما قال الله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ، ليبين لهم } واذن الله لرسوله الكريم صلوات ربي وتسليماته عليه بقراءة القرآن بالقراءات المعتمدة لحكم عديدة نبينها فيما يلي :
1- التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمة :
فنحن نعلم ان العرب كانوا يختلفون في طريقة الأداء بحيث لا تتمكن القبيلة من قراءة لم يتعود عليها لسانها والله تعالت رحمته وحكمته يقول : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } زكما يقول أيضاً : { يريد الله أن يخفف عنكم }
وإن هذا التخفيف جعل الأمة الإسلامية تجتمع على لسان واحد ، وهو لسان قريش الذي نزل به القرآن الكريم ، لأن لغات العرب جمعاء تمثلت في لسان القرشيين بهذا المعنى ، وكانت هذه حكمة إلهية سامية ، فإن وحدة اللسان العام من أهم العوامل في وحدة الأمة ، خصوصاً أول عهدها بالتوثب والنهوض .
2- اختلاف القراءات يظهر الأختلاف في الأحكام مع الإعجاز في الإيجاز اللفظي لكون الكلمة الواحدة بمنزلة كلمتين أو أكثر :
ومن هذا ما اختلف فيه الفقهاء في مسألة نقض وضوء الملموس وعدمه على اختلاف القراءة في { لمستم ولامستم } .
قال البناء : بالألف أي ( ماسستم بشرة النساء وقيل جامعتموهن ) واللمس باليد ، فعلى اللمس لا نقض وعلى المس ينتقض الوضوء .
ومن أمثلة اختلاف الحكم الفقهي بتعدد القراءة ما هو معروف من جواز وطء الحائض عند انقطاع الدم قبل الغسل وعدمه على الاختلاف في { يطهرن }
فعلى قراءة التشديد يلزم الغسل بعد انقطاع الدم أما قراءة التخفيف فتفيد الجواز - ( يعني جوازالوطء ) - بمجرد انقطاع الدم عنهن وقبل الأغتسال .
وطالما أن القرائتين الواردنتين متواتران فلا تفضيل لأحداهما عن الأخرى فيجوز هذا ويجوز ذاك ولكنه من الواجب على المرأة بصفة عامة ألا تؤخر غسل الجنابة سواء من حيض أو نفاس أو جماع حتى تواظب على الصلوات في أوقاتها ، ( فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ) .
3- قد يختلف المعنى باختلاف القراءة :
كما في قوله تعالى : { وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته } فـقـد قرئـت :
{ بشراً } بأربعة أوجه :
( أ ) بُشْراً : بالباء المضمومة والشين الساكنة جمع بشير .
(ب) نُشْراً : بالنون المضمومة والشين الساكنة جمع ناشر .
(جـ) نَشْراً : بالنون المفتوحة والشين الساكنة بمعنى منشورة أي متفرقة .
( د ) نُشُراً : بالنون والشين المضمومتين وهي مفردة جمع نشر بفتح فسكون .
وهذا يدل كذلك على الإعجاز في الإيجاز اللفظي فتنوع القراءات بمنزلة تنوع الآيات .
4- إظهار سر الله تعالى في كتابه وصيانته له عن التبديل والأختلاف والاضطرابات مع كونه على هذه الأوجه الكثيرة :
فسبحان من حفظ كتابه و قراءته عن العبث والتغيير وعن التناقض رغم ما احتوى من كثرة تشريعاته وقضاياه وسبحانه القائل : { أفلا يتدبرون القرآن ولوكان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } .
5- إظهار فضل الأمة الإسلامية وشرفها ومكانة لغتها على غيرها من الأمم واللغات :
حيث لم ينزل كتاب من السماء بأكثر من قراءة غير القرآن الكريم . { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }
6- إعظام أجر علماء هذه الأمة :
حيث أنهم يفرغون جهدهم في تحقيق الكتاب وضبطه لفظة لفظة حتى مقادير المدَّات وتفاوت الإمالات وتتبع معاني ذلك واستنباط الحِكم والأحكام من دلالة كل لفظ وإمعانهم الكشف عن التوجيه والتعليل والترجيح ، مما يؤكد لنا صدق هذا الكتاب المنزل وصدق ما يخبر به وأنه الفصل ليس بالهزل .
7- بيان تفسير اللفظ بالقراءة غير المتواترة ودفع توهم ما ليس مراداً :
وذلك مثل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } فقد قرئت : { فامضوا إلى ذكر الله } فالقراءة الأولى يتوهم منها وجوب السرعة في المشي إلى صلاة الجمعة ، ولكن القراءة الثانية رفعت هذا التوهم لأن المضي ليس من مدلوله السرعة . فالغاية هي الذهاب لا المشي السريع .
وهناك كثير من الحكم في تعدد القراءات ولكن خير الكلام ما قلَّ ودلَّ . لأن ما مرَّ يعني أن هذا القرآن يعجز إذا قريء بهذه القراءة ، ويعجز أيضاً إذا قريء بهذه القراءة الثانية ، ويعجز أيضاً إذا قريء بهذه القـراءة الثالثة ، وهلمّ جراً .
ومن هنا تتعدد المعجـزات بتعـدد تلك الوجـوه والحروف ! .
والخلاصة :
أن تنوع القراءات ، يقوم مقام تعدد الآيات وذلك ضرب من ضروب البلاغة ، ييتديء من جمال هذا الإيجاز ، وينتهي إلى كمال الإعجاز .
أضف إلى ذلك ما في تنوع القراءات من البراهين الساطعة ، والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله ، وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله r ، فإن هذه الأختلافات في القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقص في المقروء وتضاد ، ولا إلى تهافت وتخاذل ، بل القرآن كله على تنوع قراءاته ، يصدّق بعضه بعضاً ، ويبين بعضه بعضاً ، ويشهد بعضه لبعض ، على نمط واحد في عُلُوِّ الأسلوب و التعبير ، وهدفٍ واحد من سُمُوِّ الهداية والتعليم ، وذلك - من غير شك - يفيد تعدد الإعجاز بتعدد القراءات والحروف.