(( جريمة حرمان الأم من أولادها))
بنيت الأُسْرة في الإسلامِ على المودَّة والرَّحْمة، فإذا عُدِمت المودَّة والمَيل القلبي، فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان، ولا يَحِلُّ لأيٍّ مِن الزوجين أو ذويهما أن يُضمِرَ الانتقامَ والإضرار، وإلا كان ذلك غيرَ إحسان.
تأمَّلوا قولَ الله - تعالى - في المُطلَّقة غيرِ المدخول بها حين قرَّر - سبحانه - لها نِصفَ المهر، ثم قال - سبحانه - بعدَ بيان الحُكم: ﴿ وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 237]، فإذا نَهَى الله - تعالى - عن نِسيانِ الفَضْل بين زوْجين في زواجٍ انفصمتْ عُراه قبلَ دخولِ الزوج بزوجتِه، فكيف بعدَ الدخول إذًا؟! بل وكيف إذا كانَ بينهما أطْفال؟!
إنَّ أكبرَ ضحية للطلاق هم الأولاد، وإذا كانَ الطلاقُ عن نِزاع - وهو الأغلب - عاش الأطفالُ ذلك النِّزاعَ بين أبويهم بفصُولِه، واكْتَووا بنارِه، وتأثَّرت نفسيَّاتُهم بسببه، فيحتارون إلى مَن يَصيرون، ومع مَن يكونون؟ وهاجِس المستقبل بعدَ الطلاق يُؤرِّقهم، ولا سيَّما حين يَقْتسمهم الوالِدان.
إنَّ أعظمَ جريمةٍ تُرتكب في حقِّ الأولاد وأمِّهم بعدَ ترمُّلِها، أو طلاقِها - أن يُتَّخذوا سلاحًا لإضعافها والانتقام منها، فيَنتزع الأبُ أو ذووه أولادَها منها بالقوَّة، ويحبسهم عن أمِّهم؛ لتصفيةِ حِساباتٍ سابِقة، أو لإثباتِ أنَّه أقوى، أو لغيرِ ذلك، فيُحرق قلْبَ أطفاله على أمِّهم لإطفاءِ نِيران قلْبه المشتعِل بالضغائنِ والأحقاد، نعوذ بالله - تعالى - مِن قلوبٍ لا تعرِف الرحمة.
إنَّ الشريعةَ قد حرَّمتْ منْعَ الأمِّ مِن أولادها، وحبْسَهم عنها لأيِّ سبب كان، فإنْ كانوا في فترةِ الحضانة فهي أولى بهم مِن أبيهم إلاَّ أن تتزوَّج، فإنْ تزوَّجت وانتَقلتْ حضانتُهم لغيرها، لم يُمنعوا منها، ولا يَحِلُّ الانتقام منها؛ لأنَّها تزوَّجت، بل يُمكَّنون مِن زيارتها والجلوسِ معها بيْن حينٍ وآخَر، ويجب على الزَّوْج أنْ يُعينهم على بِرِّ أمِّهم ولو كانتْ طليقتَه، ولا يُؤلِّبهم عليها، أو يُشوِّه صورتَها في أذهانهم، فإنَّ ذلك كلَّه يُنافي الفراقَ بإحسان، ويعود بالسَّلبِ على أولاده، فإمَّا أن يكرهوه لكثرةِ كلامه في أمِّهم، وإمَّا أن يكرهوا أمَّهم، وفي كِلتا الحالتين لن يكونَ ذلك خيرًا له ولا لهم.
إنَّ على الآباء والأمَّهات أنْ يَسْعَوا بعدَ طلاقهم فيما يعود بالصلاحِ على أولادهم، وإنَّ على الآباءِ أن يَعْلَموا أنهم حين يستخدمون أولادَهم سِلاحًا للانتقام مِن طليقاتهم فإنَّهم يَنتقِمون مِن أولادهم.
إنَّ السجونَ ودُورَ الأحداث ومستشفيات الأمَل مليئةٌ بشباب وفتيات وقَعوا فيما وقَعوا فيه مِن المخالفات والمخدِّرات؛ بسببِ عدم الاستقرار الأُسَري، بسبب نِزاع بين آبائهم وأمهاتهم، حتى وقَع الطلاق بسبب تقاذُفِ آبائهم وذويهم لهم، واتِّخاذهم وسائلَ في معاركَ لا خاسِرَ فيها مثلهم، حتى ملُّوا وضاعوا، وهرَب الأبناء مع رُفقاءِ السوء، وصاحَبَ البناتُ رفيقاتِ الشر، فقادوهم جميعًا إلى الإجرامِ والمخدِّرات والضياع.
إنَّهم أولادٌ أسوياءُ لو وجَدوا بيوتًا آمِنة، يأمنون فيها على أنفسهم، وتُشبَع فيها عواطفُهم، إنَّهم هرَبوا مِن بيوتِ آبائهم وأمَّهاتهم؛ لأنَّهم لم يَجِدوا فيها ما ينشدونه مِن الأمْن والاستقرار فافترستْهم عصاباتُ الإجرام، ففقدهم آباؤهم وأمهاتُهم والأُمَّةُ بأَسْرِها.
إنَّ الله - تعالى - حين أباح الطلاقَ خلاصًا مِن زواج سُدِّت فيه طرقُ الرحمة والمودَّة والاستقرار؛ أتْبَع ذلك بأحكامٍ تَحْفَظ الأولادَ من الضياع، وحرَّم على الآباء أن يجعلوهم ورقةَ ضغط وابتزاز للأمَّهات.
فليتَّقِ اللهَ - تعالى - كلُّ مُعَلِّقٍ أو مُطلِّق أن يَظلمَ طليقتَه وولدَه بحِرمانها من أولادها لمالٍ يرجوه، أو لإسقاطِ نفقتهم عنه وهم أولادُه، أو لغيرِ ذلك مِن الأغراض الدنيئة التي يعفُّ عنها كِرامُ الرجال، ولا يَنتحلها إلا الأراذلُ مِنهم.
وليتَّقِ اللهَ ذَوُو مُعلِّق أو مُطلِّق أن يُعينوه على ظُلمِه في حِرْمان ولدِه من أمِّهم، بل الواجب عليهم أن يُنكِروا عليه فعْلَه وأن يُنصِفوا ولدَه وطليقتَه مِن ظُلْمه وبغْيه.
وعلى الناس إنْ رأوا باغيًا على طليقتِه وولدِه يَحْرمهم مِن بعْض أن يُنكِروا ذلك عليه، ويَعِظوه بالكتاب والسُّنَّة، ويَسْعوا بكلِّ الوسائل الممكِنة للجمْع بين الأم وأولادها، وقد قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّه لا قُدِّسَتْ أُمَّة لا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فيها حَقَّهُ غيرَ مُتَعْتَعٍ))؛ رواه ابن ماجه.
وأيُّ حقٍّ لمخلوقٍ أعظم مِن حقِّ أمٍّ في رؤية ولدِها، وتقبيله ومعانقته والجلوسِ معه، والاستئناس به، فكيف يُمْنَع هو منها، وتُمنع هي منه؟!