مجهولــون في الأرض.. معروفـــون في السمـــاء ...
 
 
 
هم البعيدون عن الأضواء , المكتفون 
بأضواء قلوبهم , الواثقون من خطاهم 
كالطائر في طريقه من أعالى الجبال
ليصطاد سمكة تلامس سطح المحيط , 
لا يضيره اتجاه الرياح .
 
إنهم دائما يعيشون حولنا , وكأنهم في كوكب 
- قد لا يرتئيه البعض كوكبا حسنا للعيش فيه
, ربما لنقص مقومات الترف , أو قلة الراحة 
, أو قله المال بين ايديهم , إلا انه بالرغم من
ذلك فكوكبهم يحوي أسرارا لا يعلمها إلا قاطنوه
, فالأحلام عليه بسيطة , والآمال صالحات 
, والأرض مساجد , والهوية طهارة ونقاء ,
أنهاره دموع من خشية الله , 
العمل فيه مهمة مقدسة , الاستغفار انشودته 
, والتسبيح تمتماته , والرضا اسمي معاني
الفرحة على ارضه .
 
 
 
عادة فالشخص المجهول , قليل الأتباع , 
فقير المتاع , اسمه لا يثير المسامع إذ نُطق ,
ولا يُسمع إذا تكلم , تتكتل على ظهره هموم الوحدة 
, ومآسى التفرد , وصعوبة معاناة الحياة ,
يعاني الحزن المزمن , والقلق الدائم .. 
هكذا تفسيرنا بمنطقنا وواقع عالمنا .
 
إلا أن هناك من لا يرى بذلك المنظور الدنيوي 
, فهو مجهول , لكنه كعابر سبيل , 
لا يأبه إن كان معروفا أو مجهولا , 
مشهورا أو مغمورا , لا يكمن فرحه في ذكر
اسمه بين أهل الأرض, بل غايته ورجاؤه أن يذكر في السماء .
إنه ذاك التقي الذي يعيش في الدنيا بجسده ,
بينما روحه معلقه بالآخرة , يرى فيها حياته ومماته وخلوده , يري الحلم في اسمى معانيه حينما 
يكون بعيدا عن أنظار الناس .
 
هو من غرس سكينه في قلب الرياء ,
ومزق رداء الكبر بيدين خشنتين من العمل ,
وسقى نبتة الإخلاص على عينه بدموع
الخشية من الله , والرغبة في الجنة ,
والصمود في وجه رياح الفتن العواتي
في زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر .
لو ماج الناس وغووا , ما أثر ذلك في 
عزيمته بشيء , ولو انغلقت أمام الناس
الابواب بنى بنفسه بيتا خاصا بأبواب عديدة ,
ولو انشغل الناس أجمعون , 
لم يشعر بالوحدة ولا تفرد الطريق , 
إذ كان مستأنسا بالله , ولو غربت كل
الشموس لظل حيا في نورانية بصيرة بيضاء .
 
 
 
إن الغربة الصالحة في الدنيا لهي من سمات
أصحاب القلوب الربانية , وهكذا هم الربانيون
, قلة في مجتمع يموج بالفتن , 
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 
: " بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا 
، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ" رواه مسلم
 
أتحدث هنا عن أناس غلبت قلوبهم شهوات 
أنفسهم , وتوطنت بداخلهم لذة العبودية ,
واستبدلت لذة المعصية , فكانوا جند الله في الأرض , مصلحين مستغفرين , ليس عليهم سيماء سوى 
اثر الباقيات الصالحات , مجهولون في الأرض
لا يأبه لهم الناس , فلكأنهم في شفافيتهم 
ونقائهم سكان السماء , لا يعصون الله 
ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
 
إن استصغار الدنيا في العيون وفي القلوب , 
وتقليل آثارها من الرغبة في مباهجها ,
لهو ذخر من النعم قد وهبها الله للقليلين المجهولين ,
نعمة قد لا يحسدهم عليها أحد بل يشفقون عليهم ,
بينما هم من يشفقون على الناس حيرتهم 
وجشعهم الذي يأكل نفوسهم كما يأكل السوس .
 
 
 
الحرية الحقة التي يملأ الشعور بها جنباتهم ,
لطالما رآها الناس سجنا , بينما هي الحرية في
اسمى معانيها , حرية العبودية للخالق عز وجل ,
لا قيود مزورة تأسره , ولا زخارف تقيده , 
ولا منالات تختطف أمله , فقط ما يرضي 
ربه سبحانه ..
ولا غرو , فالإيمان الساكن في القلوب لا يفصله 
عنها تقلبات الحياة , وما يزيد من ارتباطه بالقلب
هو ترك كل يُشغل عن الله , كذلك سمات القلوب
الراقية المشرئبة إلى المنازل السامية 
والجنات العالية , من يتقنون فن إشباع القلب
بالإيمان , ويبدعون في أعمالهم غيظا للشيطان 
, بينما هم سائرون خطوة بخطوة على سبيل
قائدهم عليه الصلاة والسلام .
 
إن تغير الأسماء والمسميات لهي من سمات 
آخر الزمان , حتى تبدلت المعاني , 
واصطبغت الأشياء بعكس ألوانها ,
فبدا الصالح منغلقا , والعابد منطويا , 
والمتفكر واهما , بل بدت الذنوب في
ثياب التحضر والحرية , والمعاصي
في ثياب المواعظ .
فماذا ننتظر من أيام بدلت كل شيء , وزيف فيها كل حق , وحرّفت في قاموسها كل معان الحياة الربانية الخالصة , واستبدلت أحرفها بزخرف القول المختبئ وراءه حالك العتمة , والوجوه الزائفة .
 
يتبـــــــــــــع 
  
 
  |